أسماء بنت يزيد.. أول سفيرة في الإسلام ومقاتلة طالبت بالمساواة بين الجنسين
حقوقيات في زمن النبوة "14"
التحضر تجسده كلمة "لا" حينما تقولها ولا تشعر بالذنب، وتتقبل سماعها دون شعورك بإساءة، والاعتراض حق مكفول في الإسلام له آداب وطقوس، التي منها أن يحمله متحدث ينوب عن الجمع كسفير.
والمتحضر من يفعل الفعل ولا ينكر مثله على غيره، وفي يوم ما، وقف النبي محمد بن عبدالله في قومه مناديًا بالإيمان بإله واحد وترك عبادة الأصنام، وإنه لأمر جلل لمجتمع يقوم اقتصاده على عبادة الأصنام، واليوم تقف "أنثى" في مجتمع قبلي تدعى أسماء بنت يزيد كسفيرة للنساء، تناقش رسول الإسلام وتراجعه فيقر فعلها ويجيبها، ولا يعد وقفها تعديًا ولا نقاشها إساءة.
إعادة قراءة شخصية أسماء في إطار حقوقي ضرورة، لما اتصفت به من جرأة وشجاعة، ودلالة فعلها في تأصيل مساواة بين الجنسين أقرها الإسلام الذي منح المرأة حق الاعتراض والجهاد، فمن قصص شجاعتها أنها اقتلعت عمود خيمتها وراحت تدُك وتضرب به رؤوس جنود الروم حتى قتلت يومها تسعة، من أي طراز هذه المرأة؟!
يعرفنا الحافظ ابن حجر العسقلاني بهذه الصحابية الكريمة في كتابه "الإصابة" فيقول: هي أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع بن امرئ القيس الأنصارية الأسدية ثم الأشهلية، كانت تكنى أم سلمة.
وهي رضوان الله عليها من المبايعات المجاهدات، أسلمت في العام الأول من الهجرة على يد مصعب بن عُمير “مصعب الخير”.. ذكر ابن سعد صاحب "الطبقات" عن عمرو بن قتادة -رضي الله عنه- قال: أول من بايع النبي أم سعد بن معاذ "كبشة بنت رافع" وأسماء بنت يزيد، وحواء بنت يزيد، وكانت أسماء تعتز بهذا السبق.
وفارسة الفرسان وصفها الأصبهاني صاحب "حلية الأولياء" بقوله: أسماء بنت يزيد بن السكن، النابذة لما يورث الغرور والفتن.
كما ذكر أبونعيم أيضًا في "الحلية" قصة تشير إلى تخلي أسماء عن حليتها الذهبية عند البيعة، فسعادتها لم تكن في الحلي والذهب، ولكن بالتقى والإيمان الحقيقي.
شهد لها الصحابة الكرام بفصاحة اللسان وقوة البيان وسحر الكلام وحسن المنطق، والشجاعة، والمطالبة بالمساواة بين الجنسين، ولذا تُعد أول سفيرة في الإسلام ومبعوثة النساء، فكما روى المؤرخ ابن الأثير في مؤلفه "أسد الغابة"، أنها رضي الله عنها أتت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وهو بين أصحابه فقالت بأبي وأمي أنت يا رسول الله، إني مبعوثة من ورائي من جماعة نساء المسلمين وكلهن يقُلن قولي، إن الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن -معاشر النساء- مقصورات، محصورات قواعد بيوتكم ومقضى شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فُضلوا بالجمعة والجماعات، وشهود الجنائز والجهاد، في سبيل الله، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا أولادهم، أنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه فقال: "هل سمعتم مقالة المرأة؟ ما أحسن سؤالاً عن دينها من هذه؟" فقالوا: بلى، والله يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت -صلى الله عليه وسلم- إليها فقال: "انصرفي يا أسماء وأعلمي من وراءك من النساء أن حُسنَ تبعُّل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته واتباعها لموافقته، يعدل كلّ ما ذكرت للرجال".
فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارًا بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عن أسماء ثلة من أجلاء التابعين، كما روى أصحاب السنن الأربعة: أبوداود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وخرّج لها البخاري في الأدب المفرد، وتجمع مرويات أسماء رضي الله عنها بين التفسير وأسباب النزول والأحكام والشمائل والسيرة والفضائل.
كانت رضوان الله عليها فارسة في مجال العلم والجهاد، تتعلم وتعلم النساء، وتتحدث في أمور الدين والآخرة، وتشارك في الغزوات بيدها الحانية في علاج الجرحى، وبلسانها البليغ في النداء للجهاد، وبسيفها إذا اقتضت ظروف الحال.
ولو أنها ترددت أو تكاسلت لأضاعت على نفسها وعلى بنات جنسها الفرصة في العلم بأمور الدين والدنيا، لكنها أقدمت وتقدمت وسألت وحصلت على الجواب الشافي، فاستفادت وتعلمت وعلمت النساء، وصارت قدوة.
قدوة حسنة
لا يمكننا الفصل بين بذرة المساواة تلك التي زرعها الإسلام وروتها الصحابيات فامتدت فروعها إلى يومنا هذا، وبين ما يحدث في العصر الحديث، فكما جاهدت وناقشت أسماء قديمًا كذلك جاهدت المرأة في العصر الحديث والحاضر الذي شهد استعمار الدول الإسلامية والعربية في بدايته، فشاركت الرجال في شتى صنوف المقاومة وفي حروب التحرير جنباً إلى جنب مع الرجل.
ومن الأمثلة على ذلك الحرب التي خاضها الشعب الليبي بقيادة المجاهد عمر المختار، وكيف شاركت المرأة الليبية فيها، حيث كانت تقوم بحمل السلاح والجهاد مباشرة، ثم تهريب الأسلحة ونقلها للمجاهدين، وتمريض المجاهدين وإعداد الطعام لهم، وسقيهم، وغسل ملابسهم، وغير ذلك من الأعمال المساندة للمجاهدين.
وكذلك دور المرأة الفلسطينية، فمنذ أن بدأت انتفاضة المساجد في عام 1987م، حتى يومنا هذا، والمرأة تضرب كل يوم أروع الأمثلة في البطولة والاستشهاد دفاعاً عن وطنها وعرضها ودينها وأبنائها، فقد مارست المرأة في هذه المرحلة كل صنوف النضال الوطني، بدءاً من مقارعة العدو الصهيوني بالحجارة التي تعد السلاح الأكثر انتشاراً في هذه الانتفاضة، ومروراً بعراك جنود إسرائيل بالأيدي ووجهاً لوجه، وكذلك قيامها بمنع الجنود من القبض على المقاومين عن طريق تمويه الأمر عليهم والتصدي لهم وجهاً لوجه، بل وعن طريق تخليص كثير من شباب الانتفاضة من أيدي الجنود الإسرائيليين، وانتهاء بالعمليات الفدائية التي قامت بها العديد من النساء الفلسطينيات.
جهادها يوم اليرموك
وما ذكر المؤرخون عن أسماء رضي الله عنها يوم اليرموك يثير الدهشة، وورد في مجمع الزوائد الجزء التاسع، أن أسماء قتلت يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود فسطاط و"رجاله ثقات".
ويروى أن حشد الروم جيوشهم في معركة اليرموك، وجاؤوا بكامل عدتهم وعتادهم في السنة الثالثة عشرة للهجرة لقتال المسلمين في بلاد الشام.
ويوم اليرموك كان لأسماء صولات وجولات، لها أدوار عدة تسقي وتداوي وتحمل السيف في سبيل الله وتخطب في الناس، فتشتد العزائم وتزداد الإرادة قوة وصلابة، ومع هذا الدور الكبير، كانت تحث الجميع على الجهاد في سبيل الله، ونصرة الدين الحق، وتدعوهم إلى الصمود في وجه الأعداء، والقتال من أجل النصر أو الشهادة.
وكانت النساء فارسات في المعارك كما الرجال ومنهن أسماء، من ذلك ما قاله ابن كثير -رحمه الله- قال ابن جرير وغيره: فسقط فيها وقاتل عندها مئة ألف وعشرون ألفا سوى من قتل في المعركة، وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم وقتلوا خلقا كثيراً من الروم وكن يضربن من انهزم من المسلمين ويقلن أين تذهبون تدعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى القتال.
ومن فضائلها رضوان الله عليها أيضًا أنها شهدت غزوة الخندق وغزوة خيبر.
قوة إيمانها
نشأت في أسرة عُرف أفرادها بالتضحية والجهاد، أبوها هو يزيد بن السكن بن رافع الأنصاري، الذي اُستشهد يوم أحد، وفي تلك المعركة أوهنت وأضعفت الجرح زياد بن السكن عم أسماء، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أدنوه مني، فوسد قدمه فمات شهيدًا وخده على قدم النبي، عليه الصلاة والسلام، كما استُشهد أيضًا في المعركة ذاتها أخوها عامر بن يزيد، الذي جعل جسده درعًا يدافع به عن رسول صلى الله عليه وسلم، فنال الشهادة في سبيل الله، ومن العجيب أنه لما بلغها استشهادهم في غزوة أُحد، خرجت تطمئن على سلامة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو قادم من أُحد، وعندما رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل وهينة يا رسول الله" وهذا دليل على قوة إيمانها وصبرها على البلاء.
روايتها للحديث
كانت أسماء رضي الله عنها واعية للحديث النبوي، فقد لازمت البيت النبوي طويلاً، وكانت محبة للعلم والسؤال، إذ كانت تمتلك الجرأة في الاستفسار، لذلك كانت من أكثر النساء رواية للحديث، فقد روت فيما يذكر 81 حديثًا.
روى عنها أصحاب السنن الأربعة : أبوداود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وخرّج لها البخاري في الأدب المفرد، وتجمع مرويات أسماء رضي الله عنها بين التفسير وأسباب النزول والأحكام والشمائل والسيرة والفضائل.
وحدَّث عنها مولاها، وشهر بن حوشب، ومجاهد، وإسحاق بن راشد، وابن أختها، ومحمود بن عمرو وآخرون.
ومن مروياتها في الحديث قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي".
ومن مروياتها ما أخرجه ابن ماجه بسنده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام.
كانت رضي الله عنها أول من نزلت فيها عدة المطلقات.
فقد أخرج أبوداود والبيهقي في سننه عن أسماء بنت يزيد قال: طُلقت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن للمطلقة عدة، فنزل قول الله تعالى: (والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) سورة البقرة آية 228.
وفاتها رضي الله عنها
قال ابن حجر في "الإصابة" والهيثمي في "مجمع الزوائد": أم سلمة الأنصارية هي أسماء بنت يزيد بن السكن، شهدت اليرموك، وعاشت بعد ذلك دهرًا.
وورد في "سير أعلام النبلاء" أن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها سكنت دمشق، وأما بعض المؤرخين فقد ذكرها في وفيات سنة 69 للهجرة في خلافة عبدالملك بن مروان.
المراجع
أسد الغابة
مجمع الزووائد
حلية الأولياء
الإصابة في تمييز الصحابة
المستدرك
مسند أحمد بن حنبل
سير أعلام النبلاء